*
الخميس: 13 فبراير 2025
  • 12 فبراير 2025
  • 17:57
‏تموضع استراتيجي لا استسلام
الكاتب: المحامي الدكتور ربيع العمور

‏لا شك أن لقاء الملك عبد الله الثاني مع الرئيس الأمريكي  دونالد ترامب حمل أبعادًا سياسية عميقة، وهو لقاء جاء في ظل ظروف إقليمية ودولية معقدة. البعض سارع إلى تفسير تحفظ الملك الأردني على أنه قبولٌ ضمني بسياسات التهجير التي يُحكى عنها، ولكن عند التدقيق في التفاصيل، لا يوجد أي تصريح واضح أو التزام بهذا الطرح. بل على العكس، ما حدث هو إعادة تأكيد الموقف العربي الموحد، وهو موقف يحمل ثقلاً أكبر بكثير من أي موقف منفرد.

‏إن الملك عبد الله، بصفته زعيمًا لدولة ذات موقع استراتيجي حساس، اختار طريق المناورة السياسية بدلًا من الدخول في مواجهة مباشرة غير محسوبة العواقب مع رئيس أمريكي يتمتع بعنجهية غير مسبوقة، ويمتلك نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا هائلًا. هذه ليست موافقة على التهجير، بل هي محاولة لتجنب الضغط الذي قد يؤدي إلى نتائج كارثية على الأردن والمنطقة برمتها.

‏بين المبادئ والمصالح: هل كان الصمت خيارًا صائبًا؟

‏رغم تفهمنا للنهج الذي تبناه الملك عبد الله، فإن الصمت أمام أسلوب ترامب المتعالي لم يكن مشهدًا يليق بالعرب. نحن أمة لا تقبل الإملاءات، ولا نرضى بأن يتحدث إلينا أحد بتكبر أو فوقية. ومع ذلك، السياسة لا تُدار بردود الفعل العاطفية، بل بحسابات دقيقة تتجاوز اللحظة الآنية. الأردن ليس دولة عظمى تستطيع فرض رؤيتها بالقوة، لكنه لاعب إقليمي مهم، ويعتمد في اقتصاده وأمنه على علاقات معقدة مع الغرب ودول الخليج.

‏هنا تأتي المعضلة: هل كان من الأفضل الدخول في صدام مباشر مع ترامب، أم أن الاحتماء بالموقف العربي الجماعي يُعد تكتيكًا أكثر حكمة؟ في الواقع، تبني موقف موحد هو خطوة ذكية، لأنه يُحرج القوى الكبرى التي تحاول فرض سياسات معينة، ويجعل القرار العربي أكثر صلابة. ومع ذلك، يجب أن يكون هذا التوحد حقيقيًا، وليس مجرد غطاء دبلوماسي يستخدم للتهرب من المواجهة.

‏واجب إنساني لا مساومة عليه

‏استقبال الأردن لمرضى السرطان من الأطفال القادمين من غزة ليس قضية سياسية، بل هو واجب إنساني. لا يجوز أن يُنظر إلى هذا الأمر على أنه "تنازل" أو "تنافس على كسب المواقف"، بل هو فعل طبيعي يجب أن تقوم به أي دولة تمتلك القدرة على ذلك. غزة اليوم تعيش كارثة إنسانية، والنظام الصحي هناك انهار بالكامل. السماح بعلاج الأطفال المرضى هو أقل ما يمكن تقديمه، ولا يجب أن يتحول إلى ورقة تفاوض في أي سياق سياسي.

‏المرحلة القادمة: قرارات مصيرية وصياغة للتاريخ

‏الأيام القادمة ستكون حاسمة، ليس فقط للأردن، بل للمنطقة بأسرها. القضية الفلسطينية تمر بمنعطف خطير، والقرارات التي ستُتخذ الآن ستُسجل في صفحات التاريخ، ولن يكون هناك مجال لإعادة كتابتها لاحقًا. ما يجب أن يكون واضحًا هو أن أي تهاون في ملف تهجير أهل غزة من أرضهم سيكون خيانة لا تُغتفر.

‏هنا، تتجه الأنظار إلى السعودية، التي قد تكون أمام قرار تاريخي غير مسبوق. كيف سيكون الموقف العربي في ظل هذه الظروف؟ هل سنرى موقفًا موحدًا يرفض التهجير بكل صرامة، أم سنشهد انقسامات تُضعف الصف العربي؟

‏إذا تهاون العرب في هذه المرحلة، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قاتلة للقضية الفلسطينية برمتها. لا مجال للصمت، ولكن أيضًا لا مجال للعجلة والانفعال غير المدروس. القرارات المصيرية تتطلب حكمةً وصبرًا، ولكنها تتطلب أيضًا شجاعةً ووضوحًا في اللحظات الحاسمة.

‏ مسؤولية كبرى وموقف لا يحتمل الخطأ

‏إن القضية الفلسطينية اليوم ليست مجرد نزاع سياسي، بل هي قضية حق تاريخي وإنساني، والتخاذل فيها لن يُنسى. المطلوب الآن موقف عربي موحد لا يخضع للضغوط ولا يترك مجالًا للمساومات. فإن لم يتم الالتزام بعدم تهجير أهل غزة، فسيكون ذلك إعلانًا ضمنيًا بقبول مخطط تصفية القضية الفلسطينية، وعندها، لن يكون هناك مفر من المواجهة السياسية والإعلامية، وربما ما هو أبعد من ذلك.

‏التاريخ يُكتب الآن، والخيار بين أن نكون شهودًا على ضياع الحقوق، أو أن نصنع موقفًا مشرفًا يُسجَّل للأجيال القادمة.
 

مواضيع قد تعجبك