تمر المنطقة العربية بلحظة تحوّل حاسمة، حيث تتشابك الطموحات الإقليمية مع الصراعات الجيوسياسية في ظل غياب مشروع عربي جامع قادر على مواجهة التحديات. وسط هذا التعقيد، يجد الأردن نفسه في مركز الأحداث، محاطًا بمخاطر متزايدة قد تتحول إلى فرص استراتيجية إذا ما أُحسن استغلالها ضمن رؤية سياسية ناضجة.
قراءة في المشهد الإقليمي
في ظل التحولات الراهنة، يبدو أن اللاعبين الإقليميين يسعون لإعادة تموضع استراتيجي:
1. تركيا والنشوة الإقليمية:
بعد تثبيت نفوذها في شمال سوريا، ونجاحها في استثمار الانقسامات الدولية حول الأزمة السورية، دخلت تركيا مرحلة جديدة من تعزيز حضورها في المنطقة. فشل مشروعها المرتبط بالإسلام السياسي لم يثنِها عن إعادة تشكيل دورها عبر بوابة القوة الصلبة والناعمة في القيادة السورية الجديدة. هذا النجاح يجعل من الأردن هدفًا محتملاً لمزيد من الضغوط التركية، خصوصًا أن عمّان كانت تاريخيًا جزءًا من المعادلة المشرقية التي تحاول أنقرة التأثير فيها.
2. إيران واستراتيجية التعويض:
تُظهر طهران رغبة متزايدة في استعادة نفوذها الإقليمي، بعد سلسلة الهزائم التي طالت أذرعها العسكرية والسياسية في العراق، وسوريا، واليمن. سقوط الحوثيين بات وشيكًا، مما يدفع إيران إلى البحث عن مساحات نفوذ جديدة. بالنسبة لها، يمثل الأردن نقطة استراتيجية للامتداد غربًا عبر محور يمتد من طهران إلى عمّان عبر بوابة العراق الشقيق المهدد أيضًا. هذه الرؤية الإيرانية تشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الأردن ودوره التقليدي في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي.
3. إسرائيل واليمين المتطرف:
تعيش إسرائيل حالة من التصعيد السياسي في ظل حكومة يمينية متطرفة، تضعف من إمكانية تحقيق تسوية مع الفلسطينيين، وتعمل على توسيع نفوذها الإقليمي عبر سياسات القوة. إن التراجع النسبي لقوى المقاومة المدعومة إيرانيًا، والانهيار الوشيك للحوثيين، يعزز من إحساس إسرائيل بالسيطرة، مما يضع الأردن أمام تحديات تتعلق بحماية مصالحه القومية، وحدوده، ودوره التاريخي في القدس.
4. دور القيادة الأردنية: الملك عبدالله الثاني كضامن للاستقرار
وسط هذا المشهد الإقليمي المعقد، يلعب جلالة الملك عبدالله الثاني دورًا محوريًا في تعزيز مكانة الأردن كركيزة للاستقرار الإقليمي. يتمتع الملك بمصداقية عالية وقبول واسع في الغرب، حيث ينظر إليه كقائد قادر على بناء جسور الحوار بين الأطراف المتنازعة، فضلًا عن دوره المحوري في تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا.
على الصعيد الإقليمي، يُعرف الملك عبدالله الثاني بنهجه المتوازن والقائم على تعزيز الاستقرار والتنمية، وهو ما أكسبه احترامًا كبيرًا من قادة الدول العربية. هذا القبول السياسي يضع الأردن في موقع قوي، يمكنه من حشد الدعم اللازم لتحركاته الإقليمية، سواء في مواجهة الأطماع الإيرانية أو في تعزيز دوره القيادي ضمن التحالفات العربية.
الخيارات الأردنية: رؤية سياسية استراتيجية
تتطلب هذه التحديات مراجعة دقيقة للسياسات الأردنية ضمن إطار أكثر شمولية، يوازن بين تعزيز الأمن القومي وتوسيع النفوذ السياسي، استنادًا إلى المقاربات الواقعية في العلاقات الدولية:
1. تعزيز التحالف العربي:
يدرك الأردن أن مواجهة المشاريع الإقليمية الكبرى تحتاج إلى مظلة عربية موحدة. ولذلك، فإن بناء تحالف قوي مع دول مثل مصر، والسعودية، والعراق يشكل أولوية قصوى. هذا التحالف يمكن أن يوفر للأردن غطاءً سياسيًا وأمنيًا في مواجهة الأطماع الإيرانية والتركية، ويعزز من قدرته على إدارة توازن القوى في المنطقة.
في هذا السياق، لا يجب أن يقتصر التحالف على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل يجب أن يتضمن أبعادًا اقتصادية ودبلوماسية تضمن استدامته وفعاليته
.
2. التحول إلى قوة إقليمية مستقلة:
الأردن، بموقعه الجيوسياسي الاستراتيجي، يمتلك فرصة للتحول إلى لاعب إقليمي محوري قادر على التأثير في صياغة النظام الإقليمي الجديد. لتحقيق ذلك، يحتاج الأردن إلى تطوير سياسات هجومية ناعمة، تعتمد على توسيع التحالفات، وتعزيز أدوات الدبلوماسية الإقليمية والدولية، مع الاستثمار في بناء قوة اقتصادية قادرة على تعزيز استقلالية القرار الوطني.
3. تفعيل الدبلوماسية الدولية:
إن الموقع الاستراتيجي للأردن يمنحه ميزة إضافية في بناء شراكات دولية مستدامة. يمكن للأردن أن يستفيد من علاقاته مع القوى الكبرى لضمان تحقيق توازن في مواجهة المشاريع الإقليمية، مع تعزيز دوره كحارس للاستقرار في المنطقة.
استغلال الفرص في ظل التحديات
يُظهر التاريخ أن الأزمات الكبرى تولد الفرص للدول القادرة على صياغة استراتيجيات طويلة الأمد. الأردن اليوم أمام لحظة تاريخية، حيث يمكنه تحويل المخاطر الإقليمية إلى أدوات لتعزيز حضوره السياسي عبر تبني مقاربة تجمع بين الواقعية السياسية والاستقلالية الاستراتيجية.
إن مستقبل الأردن لن يتحدد فقط بناءً على قدرته على مواجهة التحديات، بل على مدى استعداده لقيادة مشروع عربي قادر على حماية المنطقة من التفكك، وإعادة رسم ملامح النظام الإقليمي بما يضمن استقرار الدول العربية وأمنها.