*
الخميس: 06 فبراير 2025
  • 17 ديسمبر 2024
  • 08:03
‏استقلالية الرأي: وهمٌ أم أكذوبة كبرى؟
الكاتب: ‏د.محمد العرب

في عالم تعج فيه الأصوات، وتتشابك فيه المصالح والتوجهات، يبرز مفهوم الاستقلالية والحياد كقيمة مثالية يسعى الكثيرون إلى تحقيقها او يدعون ذلك..!


‏لكن هل يمكن للفرد أن يكون مستقلاً ومحايداً فعلاً؟


‏أم أن هذه الاستقلالية ليست سوى وهم يختبئ خلفه الناس، في محاولة لتجنب الواقع الصارخ بأن كل رأي يحمل في طياته تفضيلات خفية وانحيازات ذاتية؟


‏الفرد، بطبيعته، محاطٌ بتأثيرات مجتمعه وأفكاره وتجاربه، فضلاً عن انتماءاته الاجتماعية والسياسية. منذ ولادته، يكوّن الإنسان تصوراته عن العالم من خلال تجاربه وأفكار من حوله، وبالتالي تُبنى شخصيته وآراؤه بطريقة لا يمكن فصلها عن البيئة التي نشأ فيها ، هذا يجعل فكرة الحياد المطلق أشبه بواجهة تخفي تداخلات الأهواء والأفكار ، من الصعب الادعاء بأننا نملك عقولاً منفصلة عن مجتمعاتنا وتاريخنا الشخصي، فنحن نتبنى مواقفنا بناءً على ما شكّل حياتنا من تجارب ومعرفة.


‏بعض الفلاسفة مثل إيمانويل كانط أكدوا على مفهوم (العقل المستقل) ، باعتباره القدرة على اتخاذ القرارات بطريقة محايدة دون التأثر بالعوامل الخارجية. لكن حتى كانط لم يغفل التناقض الذي يفرضه الواقع؛ فالعقل الإنساني في النهاية محدود بما اختبره وما يعرفه، وهذا ما يجعل الاستقلالية الكاملة أمراً صعب التحقيق. نحن محكومون بمعرفتنا وإدراكنا، وبذلك يصعب التحرر الكامل من القيود الثقافية والنفسية التي تؤثر على آرائنا.


‏كما أن الادعاء بالحياد يُستخدم أحياناً كأداة للتلاعب في حقل الإعلام والسياسة. فالإعلام مثلاً يدّعي الحياد في نقل الأخبار، لكن الاختيار الدقيق للكلمات والصور وطريقة العرض يمكن أن يحمل في طياته تحيزات خفية. هذه التحيزات تتجسد في الانحياز الانتقائي حيث يتم تسليط الضوء على جوانب معينة من القضايا وتجاهل أخرى. الإعلام يسوّق لأفكار دون أن يظهر ذلك بوضوح، مما يجعل المشاهد يعتقد أنه يتلقى معلومات محايدة بينما هو فعلاً يتعرض لتأثير خفي على موقفه.


‏في الواقع الاجتماعي، هناك مواقف تتطلب الاختيار واتخاذ موقف حازم، سواء في قضايا أخلاقية أو اجتماعية. في مثل هذه الحالات، يصبح الحياد موقفاً وهمياً، فالتظاهر بعدم الانحياز هنا يصبح نوعاً من الهروب من اتخاذ موقف واضح. الحياد في مثل هذه المواقف يعني تبني حالة من (اللاموقف) ، وهو بدوره ينحاز بشكل غير مباشر إلى جانب يتجنب المتحدث إظهاره بوضوح ، الادعاء بالحياد يترك الفرد في حالة من الإيهام، ويتجاهل حقيقة أنه بالفعل يميل بشكل أو بآخر، سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد.


‏الادعاء بالاستقلالية الفكرية التامة يجعلنا في مواجهة مع واقع يتجاهل الحقيقة الإنسانية بأننا كائنات معقدة تتداخل فيها القيم والأفكار بشكل لا يمكن فصله. فالاستقلالية ليست حالة مطلقة، بل نسبية؛ كل قرار نتخذه هو حصيلة لتجاربنا وتأثيرات البيئة المحيطة، وهذا لا يعني أنه لا يمكن أن نحاول التخفيف من التحيز، لكنه يعني أننا يجب أن نكون واقعيين بشأن مدى قدرتنا على تحقيق ذلك.


‏في النهاية، الاستقلالية الحقيقية ليست في الزعم بامتلاك عقل محايد، بل في الوعي الكامل بتأثيرات انتماءاتنا وقناعاتنا الشخصية.
 

مواضيع قد تعجبك