*
الخميس: 13 فبراير 2025
  • 13 فبراير 2025
  • 17:46
القيادة الحقيقية بين المبادئ والمصالح: دروس استراتيجية لقادة المستقبل
الكاتب: أ. د. هاني الضمور

في عالم تموج فيه السياسة الدولية بالمصالح المتضاربة والتحديات المتزايدة، لا يُختبر القادة في أوقات الاستقرار بل في لحظات الضغط القصوى. التاريخ لا يخلد القادة الذين يسايرون الأحداث، بل أولئك الذين يصنعونها عبر مواقفهم الراسخة ورؤيتهم الاستراتيجية التي لا تنحني تحت أي ظرف. الموقف الأردني في مواجهة الطروحات المتطرفة التي حاولت فرضها الإدارة الأمريكية السابقة ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل هو درس استراتيجي في القيادة الحقيقية، حيث تتجلى المبادئ الراسخة دون أن تتعارض مع المصالح الوطنية العليا

القيادة ليست شعارات جوفاء، بل قدرة على اتخاذ قرارات مصيرية دون تردد. عندما وقف جلالة الملك في مواجهة الطرح الأمريكي القاضي بتهجير الفلسطينيين من غزة، لم يكن موقفه مجرد رفض سياسي، بل كان رسالة استراتيجية واضحة بأن الأردن ليس تابعًا لأي مشروع يتناقض مع حقوق الفلسطينيين وثوابته القومية. رفضُ الطرح لم يكن فقط دفاعًا عن فلسطين، بل كان حماية للأردن ذاته من تبعات مشاريع تخل بالتوازن الاستراتيجي للمنطقة، وهو ما أثبت أن القائد الحقيقي لا يساوم على المستقبل من أجل تجنب مواجهة آنية

العمل ضمن رؤية جماعية وليس بشكل منفرد هو أساس القيادة القوية. التحرك الأردني لم يكن مجرد رد فعل، بل كان جزءًا من موقف عربي موحد أكد جلالة الملك أنه لا يمكن تجاوزه. التشاور المستمر مع الدول العربية الكبرى، وعلى رأسها السعودية ومصر، عزز من قوة الموقف وأفشل أي محاولة لعزل الأردن عن محيطه الاستراتيجي. هذه الخطوة لم تكن مجرد دبلوماسية، بل تأكيد على أن القادة لا يعملون في فراغ، وأن أي قرار مصيري يجب أن يُبنى على تحالفات قوية تحمي المصالح المشتركة وتضمن فاعلية التأثير في المشهد السياسي

القيادة لا تعني فقط اتخاذ المواقف، بل تحويلها إلى أفعال. الأردن لم يكتفِ بالرفض السياسي، بل استمر في دعم الفلسطينيين على الأرض، مقدمًا نموذجًا في الالتزام العملي تجاه القضية. استقبال وعلاج ألفي مريض سرطان من غزة لم يكن خطوة إنسانية فقط، بل كان رسالة واضحة بأن الدعم الحقيقي لا يُقاس بالتصريحات، بل بالقدرة على تحويل الأقوال إلى إجراءات ملموسة تعزز من صلابة الموقف السياسي. هذه الاستراتيجية تؤكد أن القادة العظام لا يبنون قوتهم على الكلام، بل على القدرة على التنفيذ وتحقيق الأثر الحقيقي

التوازن بين المبادئ والمصالح هو جوهر القيادة الذكية. الأردن لم يدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، لكنه في الوقت ذاته لم يسمح لأي ضغوط بأن تمس بثوابته. القدرة على المناورة السياسية دون التخلي عن الأسس الاستراتيجية للسياسة الخارجية هي ما يجعل القائد لاعبًا أساسيًا في المشهد الدولي وليس مجرد تابع يمضي وفق مصالح الآخرين. هذه الرؤية الاستراتيجية تعكس كيف يمكن للقادة الحفاظ على مصالح بلادهم دون الانجرار إلى صفقات قد تبدو مربحة على المدى القصير لكنها تحمل مخاطر استراتيجية لا يمكن التهاون معها

التاريخ لا يصنعه المترددون، ولا يذكر من يختارون الطريق الأسهل. عندما يكون الضغط في أعلى مستوياته، وحين تحاول القوى الكبرى فرض أجنداتها، يظهر القادة الحقيقيون الذين يواجهون العواصف بثبات. الأردن، بقيادته وموقفه الاستراتيجي، قدم نموذجًا لقادة المستقبل في كيفية إدارة الأزمات بذكاء، وبناء التحالفات بوعي، وحماية المصالح دون التخلي عن المبادئ. هذه هي القيادة الحقيقية، وهذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه كل من يطمح إلى أن يكون قائدًا في المستقبل

مواضيع قد تعجبك