في ضوء حديث دونالد ترامب المتزايد عن تهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، كيف يُمكن فهم المؤتمر الصحافي للرئيس الأميركي والعاهل الأردني عبدالله الثاني أمس الأول (الثلاثاء) في البيت الأبيض، والذي فوجىء به الصحافيون كما الجانب الأردني، على الأرجح، إذ كانت ترتيبات اللقاء تخلو من مؤتمر صحافي، وفق مراسلة إحدى الفضائيات، كما أن المؤتمر سبق مباحثات الجانبين، ما يجعله يندرج في خانة الضغط لا أكثر ولا أقل.
من يتتبع المؤتمر الصحافي الذي دام 19 دقيقة لكل من ترامب والعاهل الأردني سيلاحظ أن ترامب قضى المؤتمر الصحافي يُسوّق مشروع التهجير بأسلوب إنساني، وكأن خلاص الغزيين يكمن في التهجير القسري، في المقابل، شدّد العاهل الأردني على أن مصلحة الأردن فوق كل اعتبار وأن هنالك خطة ستقدمها مصر والدول العربية بشأن غزة. وعندما أشار العاهل الأردني إلى أن الأردن سيستقبل ألفي طفل فلسطيني مصابين بالسرطان للعلاج في الأردن، استغل ترامب الملاحظة لمصلحة فكرته وهو يتباكى على حال الفلسطينيين في غزة متناسيًا أن أسلحة وقنابل أميركا وخططها في المنطقة كلها سبب معاناتهم الحقيقية، وأن الأردن من حيث الأصل يستقبل منذ بدء أحداث 7 أكتوبر أطفالًا غزيين للعلاج من السرطان في مستشفياته بعد أن دمّر الاحتلال القطاع الصحي في غزة تحت أنظار أميركا والعالم بأسره.
بدا المؤتمر الصحافي وكأنه محاولة لحشر الأردن والدول العربية في زاوية مطالب ترامب، لكن السؤال البديهي: ما هو هدف المؤتمر الصحافي الذي يبدو أن الجانبين لم يتفقا عليه.. وقبل المباحثات الموسعة؟ ألا يمكن فهمه في إطار استمرار الضغط؟ بُعَيْد اللقاء نشر العاهل الأردني على حسابه الرسمي على منصة X الآتي: “أنهيتُ للتو مباحثات بناءة مع الرئيس ترامب في البيت الأبيض. مُمتنون لحسن الضيافة. بحثنا الشراكة الراسخة بين الأردن والولايات المتحدة، وأهميتها في تحقيق الاستقرار والسلام والأمن المشترك”، وأضاف “كما أكدت أهمية العمل لخفض التصعيد في الضفة الغربية لمنع تدهور الأوضاع هناك، والتي سيكون لها آثار سلبية على المنطقة بأكملها”.
وبعد أن أكد ترامب أن إعادة إعمار غزة أمر غير ممكن وأهلها فيها، وكأن غزة بيتٌ سيتم تعزيله بمنطق الأمهات العصبيات اللواتي يضقن ذرعًا بأولادهن، خرج وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي وأوضح وجهة النظر الأردنية والعربية في مقابلة على قناة “الجزيرة” بعد اجتماع العاهل الأردني وترامب، وأكد أن إعمار غزة ممكن بوجود أهلها، وأن هذا هو المنطق العربي الذي استند إليه الأردن في المباحثات الموسعة مع الجانب الأميركي والتي تلت المؤتمر الصحافي.
وأوضح الصفدي أن العاهل الاردني قدّم الموقف الأردني الثابت والواضح وهو أننا يجب أن نعمل من أجل سلام عادل وشامل عماده تجسيد الدولة الفلسطينية وأنه سيعمل وفق ما يخدم مصالح الأردن والأردنيين ومصالح شعوب المنطقة، وشدّد عبدالله الثاني خلال المحادثات الموسعة على أن مصالح الأردن والأردنيين تتمثل في حل القضية الفلسطينية على التراب الفلسطيني؛ عدم تهجير الفلسطينيين إلى الأردن؛ والأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أن الدول المنوط بها إعمار غزة إنما هي دول عربية خليجية، وقد اجتمع وزراء خارجيتها قبل أسابيع، فإن هذا قد يُرجّح كفة خطة الدول العربية في إعادة إعمار غزة بوجود أهلها، إنْ تمسّكت كل الدول العربية المعنية بهذا الطرح.
إذ شدّد الاجتماع السداسي العربي الذي عقد مطع الشهر الحالي في القاهرة على رفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، تحت أي ظروف أو مبررات.
وحذّر اللقاء الذي شارك فيه وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن وقطر والإمارات، من أن نقل أو اقتلاع الفلسطينيين يُهدّد الاستقرار الإقليمي، ويُنذر بمزيد من امتداد الصراع، ويُقوّض فرص السلام. وأكد البيان الختامي عقب لقاء القاهرة، رفضه المساس بتلك الحقوق غير القابلة للتصرف، أو الطرد وهدم المنازل، أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها.
** تداعيات التهجير خليجيًا
استمد المتحمسون لطروحات “الشرق الأوسط الجديد” بمن فيهم عرب وإسرائيليون وحركات إسلام سياسي (برغم تناقضهم الظاهر) حماسة هائلة عند سقوط النظام السوري يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، لكن معطيات كثيرة قد تجعل من ذلك الحدث الزلزالي محدودًا وهامشيًا، في حال تم كسر طموح إسرائيل وأميركا بتهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر.
إذ أعاد سقوط سوريا إحياء ما يسمى بـ”الربيع العربي”، الذي يهدف لتسليم المشهد في دول عربية عديدة إلى “الإخوان المسلمين”، وبرغم أن دولًا عربية خليجية انخرطت ضد النظام السوري منذ العام 2011، لكن بعض هذه الدول كان ضد مشروع “الإخوان المسلمين” قولًا واحدًا، إذ قامت كلٌ من السعودية والإمارات على سبيل المثال بحظر جماعة “الإخوان المسلمين” رسميًا.
وبمجرد سفر الخيال إلى المستقبل، وتخيُّل أن هذه الطاقة “الإخوانية” الحمساوية ستترك أراضيها في فلسطين وترحل إلى الأردن، فإن هذا يعني إعادة بعث التهديد “الإخواني” على حدود السعودية ومن ثم دول الخليج العربي، والمعلوم أن المستهدف بعد سوريا هو وحدة أراضي المملكة العربية السعودية.إلى أي حد يمكن لدول الخليج، وتحديدًا السعودية والإمارات، قبول تهديد كهذا؟ لعل الصمت العربي الذي واجهته غزة منذ عام وخمسة أشهر كان سببه رهان دول عربية عديدة على التخلص من حماس و”المشروع الإخواني”، لكن بعث هذا المد الإسلامي في سوريا، يجعل كابوس الإسلاميين يطلُ برأسه من جديد.
وقد يرى البعض أن السعودية تُمسك بزمام سوريا عبر علاقتها مع أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، الذي جعل السعودية أوّلَ دولة يزورها بعد تنصيب نفسه حاكمًا على سوريا، لكن هذا لا يعني احتضانًا كاملًا له من المملكة، فالسعودية تريد الاستحواذ عليه لا احتضانه؛ تريده تابعًا لها وليس ندًّا لها، وهذا يستدعي أن يبقى أحمد الشرع يتيمًا في محيطه، أما إذا استحوذ “الاخوان” والاسلاميون على الأردن، فأي دفعة قوية سيحصل عليها الرجل.. وهل سيبقى يتيمًا؟ خلال السنوات الماضية، وعند تتبع العلاقات الأردنية السعودية، يبدو أن فتورًا غير معلن طرأ على العلاقات بين عمّان والرياض، وعُمْر هذا الفتور لا يتجاوز العشر سنوات، وهو طارئ على علاقات البلدين التي كانت قوية، فهل تعيد “الجغرافيا السياسية” الدفء للعلاقات بين البلدين من جديد؟ ثمة مصالح مشتركة تتنامى.. واستقرار الأردن هو ضمانة لاستقرار السعودية، ولعل هذا ما يقف خلف تمسك إعلان السعودية بعقد اتفاق سلام مع إسرائيل بشرط إقامة الدولة الفلسطينية.
ولعل الأردن قادر على الإفادة من رعونة تصريحات بنيامين نتنياهو عندما قال إن “السعودية لديها مساحات شاسعة وبإمكانها إقامة دولة فلسطينية عليها”. وهو ما يكشف حقيقة فداحة سقوط سوريا بالنسبة إلى أمن السعودية، فهل كان يجرؤ نتنياهو على قول ذلك قبل سقوط سوريا واستيلاء إسرائيل على أكثر من 660 كلم2 من مساحتها؟ فهل تصبح سلامة وأمن الأردن هدفًا سعوديًا في قادم الأيام؟
** احتمالات مفتوحة على الخيبات
إن كان غرس الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948 هدفه الرئيس تفتيت الأمة العربية، فإن إتمام المخطط الصهيو – أميركي اليوم بتهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر يعني تركيع الدول العربية بلا استثناء. وإن كان المنطق يستدعي حماية حق الفلسطينيين في أرضهم لحماية الخليج العربي والسعودية التي بدأ مدّ ما يسمى بـ”الربيع العربي” يصل إلى أخمص قدميها، لكن للأسف في الغالب فإن القرارات في منطقتنا العربية مفتوحة على الخيبات وعدم الاستماع لدق ناقوس الخطر.
في الخلاصة، ثمة قمة عربية عاجلة ستعقد في القاهرة قريبًا، بدعوة من مصر، إما أن تحمل موقفًا عربيًا حاميًّا للمنطقة من المدّ الصهيو – أميركي، وحينها تتم فرملة الصحوة “الإخوانية” التي بعثها سقوط سوريا، والتي تتهدد كلًا من الأردن ومصر والخليج العربي والسعودية، أو أن نتآمر على أنفسنا ومستقبلنا من جديد بانتظار ضمانات أميركية لن تتحقق أبدًا.